الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهذه الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ [المركب] و [المؤلف] و [المنقسم] ونحو ذلك، قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده، فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن، وهو إثبات أحديته وصمديته، ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفيا/وعبر عنه بتلك العبارة وضعًا له واصطلاحا اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب، وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن، ولا من لغة أحد من الأمم، ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ـ ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة ـ ويجعل ما نفاه من المعاني التي أثبتها الله ورسوله من تمام التوحيد. واسم [التوحيد] اسم معظم جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، فإذا جعل تلك المعانى التي نفاها من التوحد، ظن من لم يعرف مخالفة مراده لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يقول بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، ويسمى طائفته الموحدين، كما يفعل ذلك الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على نفي شيء من الصفات، ويسمون ذلك توحيدًا، وطائفتهم الموحدين، ويسمون علمهم علم التوحيد، كما تسمى المعتزلة ـ ومن وافقهم ـ نفي القدر عـدلاً، ويسمون أنفسهم العدلية، وأهل العدل. ومثل هذه البدع كثير جدًا يعبر بألفاظ الكتاب والسنة عن معان مخالفة لما أراده الله ورسوله بتلك الألفاظ، ولا يكون أصحاب تلك الأقوال تلقوها ابتداء عن الله ـ عز وجل ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل عن شبه حصلت لهم، وأئمة لهم، وجعلوا التعبير عنها بألفاظ الكتاب والسنة حجة لهم، وعمدة لهم؛ ليظهر بذلك أنهم متابعون للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالفون له، وكثير منهم لا يعرفون أن/ ما ذكروه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل يظن أن هذا المعنى الذي أراده هو المعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فلهذا يحتاج المسلمون إلى شيئين: أحدهما: معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين في معانى تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة عَرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ.وكانت معرفة الصحابة لمعانى القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بَلَّغوا تلك المعانى إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه.فإن المعانى العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد، والأحد، والإيمان، والإسلام ـ ونحو ذلك ـ كان جميع الصحابة يعرفون ما أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من معرفته ولا يحفظ القرآن كله إلا القليل منهم، وإن كان كل شيء من القرآن يحفظه منهم أهل التواتر، والقرآن مملوء من ذكر وصف الله بأنه أحد، وواحد، ومن ذكر أن إلهكم واحد، ومن ذكر أنه لا إله إلا الله، ونحو ذلك. فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين وهو أول ما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إليه الخلق، وهو أول/ ما يقاتلهم عليه، وهو أول ما أمر رسله أن يأمروا الناس به، وقد تواتر عنه أنه أول ما دعا الخلق إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، ولما أمر بالجهاد بعد الهجرة قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله).وفي الصحيحين: أنه لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن الله ـ تعالى ـ قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأعلمهم أن الله ـ تعالى ـ افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). فقال لمعاذ: ليكن أول ما تدعوهم إليه التوحيد، ومع هذا كانوا من أهل الكتاب، كانوا يهودًا، فإن اليهود كانوا كثيرين بأرض اليمن، وهذا الذي أمر به معاذا موافق لقوله تعالى: فالمقصود أن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعانى الموافقة للرسول والمعانى المخالفة لها. والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويرد إلى الأول.هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعًا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة ـ يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم ـ ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس.وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، /فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. وأما حذاق الفلاسفة فيقولون: إن المراد بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو أن يخيل إلى الجمهور ما ينتفعون به في مصالح دنياهم، وإن لم يكن ذلك مطابقا للحق ـ قالوا: وليس مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم بيان الحق وتعريفه، بل مقصوده أن يخيل إليهم ما يعتقدونه.ويجعلون خاصة النبوة قوة التخييل، فهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين، ولم يفهم، بل ولم يقصد ذلك. وهم متنازعون: هل كان يعلم الأمور على ما هي عليه؟ على قولين: منهم من قال: كان يعلمها، لكن ما كان يمكنه بيانها، وهؤلاء قد يجعلون الرسول أفضل من الفيلسوف.ومنهم من يقول: بل ما كان يعرفها، أو ما كان حاذقًا في معرفتها، وإنما كان يعرف الأمور العملية. وهؤلاء يجعلون الفيلسوف أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمور العملية أكمل من العلمية، فهؤلاء يجعلون خبر الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فيه التخييل، وأولئك يقولون: لم يقصد به التخييل، ولكن قصد معنى يعرف بالتأويل، وكثير من أهل الكلام الجهمية يوافق أولئك على أنه ما كان يمكنه أن يبوح بالحق في باب التوحيد، فخاطب الجمهور بما يخيل لهم، كما يقولون: إنه لو قال: /إن ربكم ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا هو فوق العالم، ولا كذا ولا كذا لنفرت قلوبهم عنه، وقالوا: هذا لا يعرف.قالوا: فخاطبهم بالتجسيم، حتى يثبت لهم رباً يعبدونه، وإن كان يعرف أن التجسيم باطل.وهذا يقوله طوائف من أعيان الفقهاء المتأخرين المشهورين الذين ظنوا أن مذهب النفاة هو الصحيح، واحتاجوا أن يعتذروا عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الإثبات، كما يوجد في كلام غير واحد. وتارة يقولون: إنما عدل الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيان الحق؛ ليجتهدوا في معرفة الحق من غير تعريفه، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه، فتعظم أجورهم على ذلك، وهو اجتهادهم في عقلياتهم وتأويلاتهم، ولا يقولون: إنه قصد به إفهام العامة الباطل، كما يقول أولئك المتفلسفة.وهذا قول أكثر المتكلمين النفاة من الجهمية والمعتزلة، ومن سلك مسلكهم حتى ابن عقيل وأمثاله، وأبو حامد، وابن رشد الحفيد وأمثالهما يوجد في كلامهم المعنى الأول.وأبو حامد إنما ذم التأويل في آخر عمره، وصنف [إلجام العوام عن علم الكلام] محافظة على هذا الأصل؛ لأنه رأي مصلحة الجمهور لا تقوم إلا بابقاء الظواهر على ما هي عليه، وإن كان هو يرى ما ذكره في كتبه [المضنون بها] أن النفي هو الثابت في نفس الأمر. /فلم يجعلوا مقصوده بالخطاب البيان والهدى، كما وصف الله به كتابه ونبيه حيث قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال: وثَمَّ طائفة ثالثة كثرت في المتأخرين المنتسبين إلى السنة يقولون: ما يتضمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل عليه من القرآن كآيات الصفات؛ بل لازم قولهم ـ أيضًا ـ أنه كان يتكلم بأحاديث الصفات، ولا يعرف معانيها. وهؤلاء مساكين لما رأوا المشهور عن جمهور السلف من الصحابة/والتابعين لهم بإحسان أن الوقف التام عند قوله: ولما سمعوا قول الله تعالى: وفيهم من يريد بإجرائها على ظواهرها هذا المعنى، وفيهم من يريد/الأول، وعامتهم يريدون بالتأويل المعنى الثالث، وقد يريدون به الثاني، فإنه أحيانًا قد يفسر النص بما يوافق ظاهره، وتبين من هذا أنه ليس من التأويل الثالث، فيأبون ذلك ويكرهون تدبر النصوص والنظر في معانيها ـ أعني النصوص التي يقولون: إنه لم يعلم تأويلها إلا الله. ثم هم في هذه النصوص بحسب عقائدهم، فإن كانوا من القدرية قالوا: النصوص المثبتة لكون العبد فاعلاً محكمة، والنصوص المثبتة لكون الله ـ تعالى ـ خالق أفعال العباد أو مريدًا لكل ما وقع نصوص متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، إذا كانوا ممن لا يتأولها، فإن عامة الطوائف منهم من يتأول ما يخالف قوله، ومنهم من لا يتأوله.وإن كانوا من الصفاتية المثبتين للصفات التي زعموا أنهم يعلمونها بالعقل دون الصفات الخبرية ـ مثل كثير من متأخرى الكُلابية، كأبي المعالي في آخر عمره، وابن عقيل في كثير من كلامه ـ قالوا عن النصوص المتضمنة للصفات التي لا تعلم عندهم بالعقل: هذه نصوص متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، وكثير منهم يكون له قولان وحالان، تارة يتأول ويوجب التأويل أو يجوزه، وتارة يحرمه، كما يوجد لأبي المعالي ولابن عقيل ولأمثالهما من اختلاف الأقوال. ومن أثبت العلو بالعقل، وجعله من الصفات العقلية ـ كأبي محمد بن كُلاب، وأبي الحسن بن الزاغوني، ومن وافقه، وكالقاضي أبي/يعلى في آخر قوليه، وأبي محمد ـ أثبتوا العلو، وجعلوا الاستواء من الصفات الخبرية التي يقولون: لا يعلم معناها إلا الله.وإن كانوا ممن يرى أن الفوقية والعلو ـ أيضًا ـ من الصفات الخبرية، كقول القاضي أبي بكر، وأكثر الأشعرية، وقول القاضي أبي يعلى في أول قوليه، وابن عقيل في كثير من كلامه، وأبي بكر البيهقي، وأبي المعالي وغيرهم ومن سلك مسلك أولئك. وهذه الأمور مبسوطة في موضعها. والمقصود هنا أن كل طائفة تعتقد من الآراء ما يناقض ما دل عليه القرآن، يجعلون تلك النصوص من المتشابه، ثم إن كانوا ممن يرى الوقف عـند قوله: وأبو حامد في [الإحياء] ذكر قول هؤلاء المتأولين من الفلاسفة وقال: إنهم أسرفوا في التأويل، وأسرفت الحنابلة في الجمود، وذكر عن أحمد بن حنبل كلامًا لم يقله أحمد، فإنه لم يكن يعرف ما قاله أحمد، ولا ما قاله غيره من السلف في هذا الباب، ولا ما جاء به القرآن والحديث، وقد سمع مضافًا إلى الحنابلة ما يقوله طائفة منهم، ومن غيرهم من المالكية والشافعية، وغيرهم في الحرف والصوت.وبعض الصفات مثل قولهم: إن الأصوات المسموعة من القراء قديمة أزلية، وإن الحروف المتعاقبة قديمة الأعيان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو منه العرش، حتى يبقى بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته ـ إلى غير ذلك من المنكرات ـ فإنه ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد، وهي التي يحفظها من ينفر عنهـم، ويشنع بها عليهم، وإن كـان أكثـرهم ينكـرها ويدفعها ـ كما في هذه المسائل المنكرة التي يقولها بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي ـ فإن جماهير هذه الطوائف /ينكرها، وأحمد وجمهور أصحابه منكرون لها. وكلامهم في إنكارها وردها كثير جدًا، لكن يوجد في أهل الحديث مطلقًا من الحنبلية وغيرهم من الغلط في الإثبات أكثر مما يوجد في أهل الكلام، ويوجد في أهل الكلام من الغلط في النفي أكثر مما يوجد في أهل الحديث؛ لأن الحديث إنما جاء بإثبات الصفات ليس فيه شيء من النفي الذي انفرد به أهل الكلام، والكلام المأخوذ عن الجهمية والمعتزلة مبنى على النفي المناقض لصرائح القرآن والحديث، بل والعقل الصريح ـ أيضًا ـ لكنهم يَدَّعون أن العقـل دل على النفي، وقد ناقضهم طـوائف مـن أهـل الكـلام، وزادوا في الإثبات ـ كالهشامية والكرامية وغيرهم ـ لكن النفي في جنس الكلام المبتدع الذي ذمه السلف أكثر. والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة وغيرهم ـ الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين ـ يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد في رواية حنبل ولا كيف ولا معنى، ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها.وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع، وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ـ ونحوهم ـ الذين يتأولون القرآن على غير تأويله، وصنف كتابه في [الرد على الزنادقة والجهمية] فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فأنكر عليهم تأويل القرآن/ على غير مراد الله ورسوله، وهم إذا تأولوه يقولون: معنى هذه الآية كذا، والمكيفون يثبتون كيفية، يقولون: إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب، فنفي أحمد قول هؤلاء، وقول هؤلاء ـ قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية ـ وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون: معناه كذا وكذا. وقد كتبت كلام أحمد بألفاظه -كما ذكره الخَلاَّلُ في كتاب [السنة] وكما ذكره من نقل كلام أحمد بإسناده في الكتب المصنفة في ذلك -في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن، كقوله تعالى: وعن ابن عباس في قوله: وقوله تعالى: وقال قبل هذا: وأيضًا، فصفة الطعام وقدره ليس تأويلاً له. وأيضًا، فالله إنما أخبر أنه علمه تأويل الرؤيا، قال يعقوب عليه السلام: وقال تعالى: وأما قول بعضهم: ردكم إلى الله والرسول أحسن من تأويلكم، فهذا قد ذكره الزجاج عن بعضهم، وهذا من جنس ما ذكر في تلك الآية في لفظ التأويل، وهو تفسير له بالاصطلاح الحادث، لا بلغة القرآن، فأما قدماء المفسرين فلفظ التأويل والتفسير عندهم سواء، كما يقول ابن جرير: القول في تأويل هذه الآية، أي: في تفسيرها. ولما كان هذا معنى التأويل عند مجاهد ـ وهو إمام التفسير ـ جعل الوقف على قوله: وأما متأخرو المفسرين -كالثعلبي- فيفرقون بين التفسير والتأويل.قال: فمعنى التفسير: هو التنوير، وكشف المغلق من المراد بلفظه./ والتأويل: صرف الآية إلى معنى تحتمله يوافق ما قبلها وما بعدها، وتكلم في الفرق بينهما بكلام ليس هذا موضعه، إلا أن التأويل الذي ذكره هو المعنى الثالث المتأخر، وأبو الفرج ابن الجوزي يقول: اختلف العلماء: هل التفسير والتأويل بمعنى واحد أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء عن مقام الخفاء إلى مقام التجلي. والتأويل: نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء إلى كذا، أي: صار إليه، فهؤلاء لا يذكرون للتأويل إلا المعنى الأول والثاني، وأما التأويل في لغة القرآن فلا يذكرونه، وقد عرف أن التأويل في القرآن: هو الموجود الذي يؤول إليه الكلام، وإن كان ذلك موافقًا للمعنى الذي يظهر من اللفظ، بل لا يعرف في القرآن لفظ التأويل مخالفًا لما يدل عليه اللفظ، خلاف اصطلاح المتأخرين. والكلام نوعان: إنشاء، وإخبار. فالإنشاء: الأمر والنهي والإباحة وتأويل الأمر، والنهي: نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور، كما في الصحيح عن عائشة -رضى الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، /اللهم اغفر لى) يتأول القرآن. فكان هذا الكلام تأويل قوله: وتفسير كلامه ليس هو نفس ما يوجد في الخارج؛ بل هو بيانه وشرحه وكشف معناه.فالتفسير من جنس الكلام يفسر الكلام بكلام يوضحه. وأما التأويل فهو فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، ليس هو من جنس الكلام. والنوع الثاني: الخبر، كإخبار الرب عن نفسه ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته، وإخباره عما ذكره لعباده من الوعد والوعيد، وهذا هو التأويل المذكور في قوله: وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فصلنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52، 53]، وهذا كقولهم: فالتفسير هو الإحاطة بعلمه، والتأويل هو نفس ما وُعِدُوا به إذا أتاهم، فهم كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله؛ وقد يحيط الناس بعلمه، ولما يأتهم تأويله؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يحيط بعلم ما أنزل الله عليه، وإن كان تأويله لم يأت بعد، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله: وقال مقاتل: لكل خبر يخبر به الله وقت ومكان يقع فيه، من غير خلف ولا تأخير. وقال ابن السائب: لكل قـول وفعل حقيقة، ما كان منه في الدنيا فستعرفونه، ومـا كـان منـه في الآخـرة فسـوف/ يبـدو لكم، وسـوف تعلمون. وقال الحسن: لكل عمل جزاء، فمـن عمـل عملاً مـن الخـير جـوزى به في الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به في النار، وسوف تعلمون.ومعنى قول الحسن: أن الأعمال قد وقع عليها الوعد والوعيد، فالوعد والوعيد عليها هو النبأ الذي له المستقر، فبين المعنى، ولم يرد أن نفس الجزاء هو نفس النبأ. وعن السدي قال: فابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قد ذكر في هذا الكلام تأويل الأمر، وتأويل الخبر، فهذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، من باب الأمر، وما ذكر من الحساب والقيامة من باب الخبر، وقد تبين أن تأويل الخبر.هو وجود المخبر به، وتأويل الأمر هو فعل المأمور به، فالآية التي مضى تأويلها قبل نزولها هي من باب الخبر، يقع الشيء فيذكره الله، كما ذكر ما ذكره من قول المشركين للرسول وتكذيبهم له، وهي وإن مضى تأويلها فهي عبرة ومعناها ثابت في نظيرها، ومن هذا قول ابن مسعود: خمس قد مضين، ومنه قوله تعالى: وإذا تبين ذلك، فالمتشابه من الأمر لابد من معرفة تأويله؛ لأنه لابد من فعل المأمور، وترك المحظور، وذلك لا يمكن إلا بعـد العلم، لكـن ليس في القرآن ما يقتضى أن في الأمـر متشابهًا، فـإن قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، قد يراد به من الخبر، فالمتشابه من الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب، فـإن بين هـذا وبين/ مـا في الدنيا تشابـه في اللفظ والمعنى، ومع هـذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا، وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا، وقد قال الله تعالى: وكذلك ما أخبر به الرب عن نفسه مثل استوائه على عرشه وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك، فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس.وسائر أهل العلم تلقوا هذا الكلام عنهما بالقبول لما قيل: /وكذلك سائر السلف ـ كابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وغيرهما ـ يبينون أن العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.وأما نفس المعنى الذي بينه الله فيعلمه الناس كُلٌّ على قدر فهمه.فإنهم يفهمون معنى السمع، ومعنى البصر، وأن مفهوم هذا ليس هو مفهوم هذا، ويعرفون الفرق بينهما، وبين العليم والقدير، وإن كانوا لا يعرفون كيفية سمعه وبصره، بل الروح التي فيهم يعرفونها من حيث الجملة، ولا يعرفون كيفيتها.كذلك يعلمون معنى الاستواء على العرش، وأنه يتضمن علو الرب على عرشه، وارتفاعه عليه ـ كما فسره بذلك السلف قبلهم ـ وهذا معنى معروف من اللفظ لا يحتمل في اللغة غيره، كما قد بسط في موضعه؛ ولهذ قال مالك: الاستواء معلوم. ومـن قـال: الاسـتواء له معان متعـددة، فقد أجمل كلامه، فإنهم يقولون: استوى فقط، ولا يصلونه بحرف، وهذا له معنى.ويقولون: استوى على كذا وله معنى، واستوى إلى كـذا ولـه معنى، واسـتوى مع كـذا ولـه معنى، فتتنوع معانيـه بحسب صـلاتـه. وأمـا استوى على كذا فليس في القرآن ولغة العرب المعروفة إلا بمعنى واحـد.قال تعالى: ثم استوى بِشْرٌ على العراق ** من غير سيف ودم مهراق هو من هذا الباب؛ فإن المراد به بِشْرُ بن مروان، واستواؤه عليها، أي: على كرسي ملكها، لم يرد بذلك مجرد الاستيلاء، بل استواء منه عليها؛ إذ لو كان كذلك لكان عبد الملك الذي هو الخليفة قد استوى ـ أيضًا ـ على العراق، وعلى سائر مملكة الإسلام، ولكان عمر بن الخطاب قد استوى على العراق وخراسان والشام ومصر، وسائر ما فتحه، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استوى على اليمن وغيرها مما فتحه.ومعلوم أنه لم يوجد في كلامهم استعمال الاستواء في شيء من هذا، وإنما قيل فيمن استوى بنفسه على بلد فإنه مستو على سرير ملكه، كما يقال: جلس فلان على السرير، وقعد على التخت، ومنه قوله: /وقول الزمخشري وغيره: استوى على كذا بمعنى: ملك، دعوى مجردة، فليس لها شاهد في كلام العرب، ولو قدر ذلك لكان هذا المعنى باطلاً في استواء الله على العرش؛ لأنه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وقد أخبر أن العرش كان موجودًا قبل خلق السموات والأرض، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وحينئذ فهو من حين خلق العرش مالك له مستول عليه، فكيف يكون الاستواء عليه مؤخرًا عن خلق السموات والأرض؟ ! وأيضًا، فهو مالك لكل شيء مستول عليه، فلا يخص العرش بالاستواء وليس هذا كتخصيصه بالربوبية في قوله: وإنما الغرض بيان صواب كلام السلف في قولهم: الاستواء معلوم، /بخلاف من جعل هذا اللفظ له بضعة عشر معنى، كما ذكر ذلك ابن عربي المعافري. يبين هذا: أن سبب نزول هذه الآية كان قدوم نصارى نجران ومناظرتهم للنبى صلى الله عليه وسلم في أمر المسيح، كما ذكر ذلك أهل التفسير، وأهل السيرة، وهو من المشهور، بل من المتواتر أن نصارى نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة المذكورة في سورة آل عمران، فأقروا بالجزية ولم يباهلوه. وصدر آل عمران نزل بسبب ما جرى؛ ولهذا عامتها في أمر المسيح، وذكروا أنهم احتجوا بما في القرآن من لفظ [إنا] و [نحن] ونحو ذلك على أن الآلهة ثلاثة، فاتبعوا المتشابه وتركوا المحكم الذي في القرآن من أن الإله واحد ولهذا صارت متشابهة، فإن الذي معه شركاء يقول: فعلنا نحن كذا، وإنا نفعل نحن كذا، وهذا ممتنع في حق الله ـ تعالى ـ والذي له مماليك ومطيعون يطيعونه ـ كالملك ـ يقول: فعلنا كذا، أي: أنا/فعلت بأهل ملكى وملكى، وكل ما سوى الله مخلوق له مملوك له، وهو ـ سبحانه ـ يدبر أمر العالم بنفسه، وملائكته التي هي رسله في خلقه وأمـره، وهـو ـ سبحانه ـ أحق من قال: إنا ونحن بهذا الاعتبار، فإن ما سواه ليس له ملك تام، ولا أمر مطاع طاعة تامة، فهو المستحق أن يقول: [إنا]، و [نحن]، والملوك لهم شبه بهذا، فصار فيه ـ أيضًا ـ من المتشابه معنى آخر، ولكن الذي ينسب لله من هذا الاختصاص لا يماثله فيه شيء، وتأويل ذلك معرفة ملائكته وصفاتهم وأقدارهم، وكيف يدبر بهم أمر السماء والأرض، وقد قال تعالى: /وكذلك قوله: فصار لفظ الاستواء متشابهًا يلزمه في حق المخلوقين معاني ينزه الله عنها، فنحن نعلم معناه، وأنه العلو والاعتدال، لكن لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب التي يكون بها مستويًا من غـير افتقار منه إلى العرش، بل مع حاجة العرش، وكل شيء محتاج إليه من كل وجـه، وأنا لم نعهـد في الموجـودات مـا يسـتوى على غـيره مع غـناه عنه وحاجة ذلك المستوى علىه إلى المستوى، فصار متشابهًا من هذا الوجه، فإن بين اللفظين والمعنىين قدرًا مشتركًا، وبينهما قدرًا فارقاً هو مراد في كل منهما، ونحن لا نعرف الفارق الذي امتاز الرب به، فصرنا نعرفه من وجه، ونجهله من وجه، وذلك هو تأويله، والأول هو تفسيره. وكذلك ما أخبر الله به في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس، كاللبن والعسل والخمر والماء، فإنا لا نعرف لبنًا إلا مخلوقًا من ماشية/ يخرج من بين فَرْثٍ ودم، وإذا بقى أيامًا يتغير طعمه، ولا نعرف عسلاً إلا من نحل تصنعه في بيوت الشمع المسدسة، فليس هو عسلاً مصفي، ولا نعرف حريرًا إلا من دود القز، وهو يبلى، وقد علمنا أن ما وعد الله به عباده ليس مماثلاً لهذه، لا في المادة، ولا في الصورة والحقيقة، بل له حقيقة تخالف حقيقة هذه، وذلك هو من التأويل الذي لا نعلمه نحن. قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. لكن يقال: فالملائكة قد تعلم هذا، فيقال: هي لا تعلم ما لم يخلق بعد ولا تعلم كل ما في الجنة. وأيضًا، فمن النعم ما لا تعرفه الملائكة، والتأويل يتناول هذا كله. وإذا قدرنا أنها تعرف ما لا نعرفه، فذاك لا يكون من المتشابه عندها، ويكون من المتشابه عندنا؛ فإن المتشابه قد يراد به ما هو صفة لازمة للآية، وقد يراد به ما هو من الأمور النسبية، فقد يكون متشابهًا عند هذا ما لا يكون متشابهًا عند هذا.
|